رأس جحا… قصة. الاستاذ بقلم علي الشافعي
رأس جحا
قصة بقلم علي الشافعي
يقولون: في الصراحة راحة، وأنا أقول هذا الكلام غير صحيح، الصراحة تعب ووجع رأس ومشاكل, قيل لجحا يوما ما بال راسك مشجوجا ؟ قال من قول الحق. كيف؟ جرب ــ يا رعاك الله ــ أن تقول رأيك بصراحة في طبيخ زوجتك، أو مكياجها أو الثمن الذي دفعته في تسريحتها، أو سُلّم أولوياتها أو معاملتها مع صديقاتها، أو نوع الحديث الذي يخضن فيه، أو في سلوكيات أو تصرفات أو آراء ابنك أوأخيك أو جارك أو صاحبك، وانظر النتيجة، كيف سيكون القصف عليك من كافة الجبهات، ونوع الأسلحة المستخدمة.
كنت ــ بداية الصبا ومطلع الشباب ــ أسرق أحياناً جهاز الراديو ليلاً، وأضعه عند أذني تحت الغطاء، وكان الوالدان يغضّان الطرف عن ذلك، فكنت استمع طوال الليل إلى كافة الإذاعات، واسمع كلّ شيء؛ الأخبار والأغاني والبرامج الثقافية والأدبية، خاصّةً ندوة المستمعين في إذاعة لندن في ذلك الوقت ,أذكر أنني أرسلت مشاركة في البرنامج عن النباتات البرية في فلسطين, فوجئت بانهم أذاعوا المشاركة , وبعد أيام حضر ساعي البريد إلى المدرسة وسلّمني مظروفا فيه كتابين ؛ تعليم اللغة الإنجليزية والقصة العالمية الشهيرة (الجوهرة المفقودة), إضافة إلى مجلة الإذاعة, مما ترك الأثر الكبير في نفسي شجعني بعد ذلك على المطالعة والكتابة .
كانت الأحداث في تلك الفترة ساخنة تتلاطم وتتزاحم وتتصارع وتتسارع، وعلى رأسها نكسة 1967، وما خلفته من مآسي وخيبات أمل في نفوس بني عرب من المحيط إلى الخليج, فتحسّ وكأنك في مركب تتقاذفه الأمواج من كلّ جانب، ولا تعلم ما الله صانع به. وكانت تلك الأحداث تثير في نفسي كثيراً من التساؤلات، وخاصّةً لماذا؟ وكانت هذه الـ(لماذا) بالذات مثيرة لحفيظة الوالدة ومصدر قلقها، فتقول: هذا الولد الله يستره لما يكبر، وكان الوالد يقول لي: يا بُني لا تكثر من الأسئلة، فأغلب الأسئلة التي تطرحها عواقبها وخيمة، وحتى الذين هم في قلب الحدث لا يقدرون على الإجابة عليها. دع يا بُني الخلق للخالق, والأيام كشّافة.
أثناء الدراسة الثانوية مرّت معنا قصة المثل العربي (رب كلمة تقول لصاحبها دعني) قلت هذا مثل جاهلي قديم لا يجب أن ينطبق على عصرنا هذا، وهو قول المتخاذلين وقليلي الحيلة.
كان أوّل درس تعلمته عندما التحقت بالجامعة آنذاك (لا تخالف المُحاضر في الرأي )، فرأيه هو الصائب، وروحك في يده، فإن خالفته ترسب بلا جدال. وذلك أنني خالفت يوماً أحدهم في مسالة خلافية أصلا ، فغضب واحتد، فتدخل الطلبة في ذلك فقال لهم: صراحة إن لم يتراجع عن رأيه سيرسب. و….. تراجعت، ونجحت لكن بعلامة النجاح فقط، وقلت: بسيطة بتخلص هالـ….(أربع سنوات) ولما أتخرج بهونها الله.
تخرجت من الجامعة ثم تعاقدت فوراً مع إحدى الدول العربيّة، وبدأت رحلة السفر السنوية إلي ديار الغربة في بلاد العُرْب ، وبدأت أقف على الحدود أمام شباك المغادرين أو القادمين لختم الجواز فانتظر حتى يبحث المسؤول في سجّل (صرتُ أمقته شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن )، أنه سجل الممنوعين من السفر. ربما هي دقائق تقفها ولكنك تحسبها أياما وليالي حسوما ، كل من وقف على ذلك الشباك يدرك ما اقول , فيمر في ذهنك كلّ كلمة قلتها أو لم تقلها , أو مجرد انها خطرت على بالك . وأذكر أنني في إحدى رحلات العودة وعلى إحدى بوابات الوطن الذي أهوى، وأقبّل ثراه كلما حللت، رأيت النجوم في عز الظهيرة خمسة عشر يوماً، حتى تبين أن الأمر مجرد تشابه بالأسماء. وانتظرت كلمة آسف واحدة فلم أحصل عليها. فتعمق في ذهني وأذهان المسافرين أمثالي عقدة الخوف من شباك ختم الجواز على الحدود. فربما تعود أدراجك من الحدود بسبب خطأ من موظف كان يشرب القهوة، ويدخن سيجارة ويتحدث إلى صديقته فيسمع الاسم بالمقلوب، ويسجله كما سمعه. وقد يترتب على ذلك فقدانك وظيفتك. وأدركت أيضاً أنه لكي تكون مواطناً صالحاً عليك أن (لا ترى لا تسمع لا تتكلم)، وأن تجتنب السؤال مطلقاً وخاصة هذا ال(لماذا) اللعين. وعرفت كذلك أن الأسئلة ثلاثة أنواع:
فالأول يجوز أن تسأله، ولكن بحذر فيجوز لك أن تسأل مثلاً عن سعر كيلو الخيار ولكن لا تتوغل وتسأل عن سبب ارتفاع أسعاره. أما السؤال الثاني فلا يجوز لك أن تسأله، وإن سألت فربما تتعرض للتوبيخ، كأن تسأل مثلاً عن سبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، أو الآلية التي تسعر على أساسها. أما الثالث فهو السؤال الذي يجب ألّا تسأله، وإذا سألته فسوف تذهب وراء الشمس، وأظنّكم شاطرين وتعرفونه دون أن أقوله لكم.
لكن عندي سؤال خفيف ومقدور على ثمنه، يعني يرسلك أحياناً خلف جزر القمر، سؤال (غلباوي) لكن سأسأله واللي يصير يصير، أقول: صلّوا على النبي يا جماعة : دول أروبا كما تعلمون لكل منها لغتها المختلفة ,ودياناتها مختلفة أيضاً، فهناك الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وقد قامت معارك بينهم بسبب الخلافات الدينية والفكرية كحرب المئة عام بين فرنسا وبريطانيا، مع ذلك شكّلت اتحاداً بينها وأصبح بإمكان أي فرد أن يسافر إلى أي بلد فيها بالهوية الشخصية. أمّا عندنا: فأنا عربي مسلم أتكلم اللغة العربيّة، وتربطني بأخي العربي المسلم في أي بلد عربي رابطة الدين واللغة والدم والفكر والتاريخ، الذي يفرّق بيني وبينه هو حدود مصطنعة، لكن لا يستطيع الواحد منا اجتيازها إلّا إذا كان مواطناً صالحاً، أي (لا يسمع لا يرى لا يتكلم). لماذا؟ أنا لا أدري، رجاء حار: من يدري يعلّم من لا يدري، وأجره على الله. طابت أوقاتكم.
بقلم علي محمود الشافعي