ولد الهدى… خاطرة بقلم علي الشافعي
بادئ القول ــ أيّها السادة الأفاضل ــ أن الله سبحانه وتعالى ــ كما تعلمون ــ شرّع لنا عيدين، نفرح فيهما ونحتفل كما نشاء، في حدود الضوابط الشرعية , ولم يرد عن السلف الصالح، خلال القرون الثلاثة الأَول الاحتفال بغيرهما، ولو كان الأمر فيه خير لكان الصحابة رضوان الله عليهم من السبّاقين لفعله.
أوّل احتفال بالمولد النبوي أحدثه الفاطميون بمصر في القرن الرابع للهجرة، في عهد المُعِز لدين الله، حيث كان يلهى الناس بكثرة الاحتفالات عن التدخل في سياسات الدولة , فابتدع الاحتفال بمولد فاطمة وعلي والحسين، إضافةً إلى مولد الرسول عليه الصلاة والسلام والهجرة النبوية الشريفة.
إذن فمَراسِيم تزيين المدن في ذكرى المولد النبوي هي من البدع، وكذلك المسيرات الشعبية، وبخاصّة تلك التي يصاحبها قرع الطبول وآلات النقر والنفخ والرقص والغناء والصخب ، كما تفعل بعض فرق الصوفية في بعض بلدان بني آدم.
لكن الذي لا بأس به ــ يا دام فضلكم ــ هو أن نتخذ من هذه الذكرى العظيمة مناسبةً لعقد الندوات والمحاضرات، وفي وسائل الإعلام والفضائيات، نعرف أبناءنا أولا بشخصية رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام , نستذكر سيرة رجل عظيم، أصبح أمة بعد عقد من الزمان. نستذكر سيرته العطرة الطاهرة ونستخلص من معاناته المواقف والعبر التي تفيدنا في حاضرنا العجيب, ومستقبل أبناءنا الذي هو أعجب .
نستذكر مواقف الرجولة والبطولة والثبات يوم أن بُسطت له الدنيا فقال: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته أو أهلك دونه). نستذكر يوم عودته من الطائف طريداً كسير القلب، يستند على جدار وهو يدعو بكلام يتفطر له القلب: « اللهم إني أشكو اليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، ياأرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟…. إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي». نستذكر ذلك الحصار الجائر المرير في شعب أبي طالب، الذي اضطره ومن معه لأكل أوراق الشجر وجلود الحيوانات الميتة، ثلاث سنوات بالتمام والكمال. نستذكر هجرته عليه السلام من مكة إلى المدينة المنورة، وقيام دولة الإسلام على ثراها الطهور. نستذكر بدراً وأحداً والخندق وتبوك ومؤتة، ونستخلص منها العبر التي نحتاجها اليوم في إدارة معاركنا الخاسرة بامتياز. نستذكر فتح مكة والتسامح الذي أبداه مع من حاربوه وأخرجوه من دياره، فقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
نستذكر جيوش الفتح الإسلامي شرقاً وغرباً، لتصبح في غضون قرن من الزمان أكبر وأعظم أمة عرفها تاريخ البشر ؛ من حدود الصين شرقاً إلى إسبانيا غرباً، ومن الولايات الجنوبية للاتحاد الروسي شمالاً إلى بحر العرب والمحيط الهادئ جنوباً، تُحكَم بكلمة واحدة تصدر من بلاط عاصمة الخلافة. نستذكر يوم قدوم الخليفة عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة ــ على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ــ بعباءته المرقّعة لتسلّم مفاتيح بيت المقدس، وكتابة العهدة العمرية التي أمّن فيها النصارى على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم.
نستذكر حضارة بني العباس وتقدمهم في شتى أنواع العلوم والمعارف من الطب إلى الهندسة والرياضيات والفلك، في عصر الظلمة في أوروبا والتناحر والاقتتال الداخلي بينهم. نستذكر هارون الرشيد رحمه الله يخاطب الغيمة من شرفة قصره سيري أينما شئت سيصلني خراجك، والساعة الدقاقة التي أهداها لملك فرنسا، التي حسب أعضاء الكنيسة أن فيها عفريتا من الجن ، فقاموا بتحطيمها.
نستذكر المعتصم الذي هب بجيش جرار لإنقاذ امرأة مسلمة اعتدى عليها علج رومي فصاحت ومعصتماه، فاحتل حصن عمورية، وأحضر العلج أمام المرأة لتثأر منه، فعفت عنه. نستذكر صلاح الدين وقطز وحطين وعين جالوت، يومان من ايام الله.
نستذكر ــ يا دام سعدكم ــ حقبة من تاريخ ناصع غيبّت قصداً عن مناهجنا؛ ألا وهي الحضارة العثمانية الناصعة البياض، التي حكمت أغلب دول أوروبا، وكانت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وأمريكا تدفع ضريبة مقابل السماح لسفنها دخول المتوسط الذي كان يعتبر بحيرة إسلامية.
نستذكر سليمان القانوني رحمه الله الذي أجبر فرنسا، وكان يطلق عليها (ولاية فرنسا) أن تغلق مدرسة للرقص في باريس، خوفاً من وصول هذه البدعة إلى بلاد الإسلام. نستذكر أوّل غواصة في التاريخ كانت من صنع المسلمين في عهد السلطان أحمد الثالث عام 1791 م اسمها (عبد الحميد) هي أوّل غواصة في العالم تطلق طوربيدا مباشرة من تحت سطح الماء. وقد أشرف على صناعتها كبير مهندسي مصنع السفن العثماني “إبراهيم أفندي”.
نستذكر التسامح الديني وسمو الأخلاق الذي كوّن أكبر دولة اسلامية هي (أندونيسيا) دون قتال، وذلك بواسطة أخلاق التجار المسلمين. ونستذكر تسامح المسلمين الذين أسقطوا الجزية عن أهل الذمة في سنوات القحط والمحل.
بمناسبة القحط يذكر أحد الإخوة العلماء الذين يذهبون إلى شرق آسيا للدعوة يقول: جئنا قرية أغلب بيوتها من الصفيح، وصادف ذلك يوم المولد النبوي، فجاء بعض الأغنياء وذبحوا قرابة 20 عجلاً، وطبخوا وأكل أهل القرية وأخذوا معهم ما يكفيهم أياماً. فاستفسرت عن ذلك، فعرفت أنّ أهل القرية من الفقر بحيث لا يرون اللحم ولا يأكلونه إلّا في هذا اليوم من العام، وأنهم ينتظرونه بفارغ الصبر، ولا يعرفون من هذه المناسبة إلّا اللحم. وأثناء إلقاء بعض الدروس في المسجد سألني أحدهم عن حكم الذبح في هذه المناسبة، فكرهت أن أحرم أهل القرية من نصيبهم من اللحم الذي ينتظرونه من العام إلى العام، فقلت له لا باس به، وأنا أعرف الحكم جيداً , وأنّه من البدع، لكن حتى لا أحرم هؤلاء القوم من تلك الوجبة التي ينتظرونها طوال للعام.
قلت: سبحان الله حججت عام 1984فكان عدد الأضاحي التي ذبحت في مكة ذلك العام مليون ذبيحة بين غنم وبقر وجمال، بقيت ثلاثة أيام دون الاستفادة منها، ثم جمعت وأحرقت، لأنّ العلماء حتى ذلك الوقت لم يصدروا فتوى بجواز نقل هذه الأضاحي خارج مكة. وبقي العلماء بين أخذ ورد والأضاحي تحرق، والأموال تضيع سدى حتى فتح الله عليهم آخراً، فأفتوا بجواز نقلها إلى خارج مكة المكرمة، فتبرعت بعض الشركات مشكورة بجمع أموال الأضاحي من الحجاج، وذبح الأضاحي وتغليفها وتبريدها ونقلها إلى المحتاجين من دول الجوار والعالم، الذين هم أيضاً ينتظرون هذه الأضاحي من العيد إلى العيد. هل تدركون ــ يا دام سعدكم ــ كم أُهْدِر من الأموال حتى تجرأ هؤلاء العلماء وتكرّموا وأصدروا فتواهم الميمونة.
وبعد ــ أيّها السادة الأفاضل ــ فقد اعتدنا أن تكون قراراتنا في كلّ قضايانا متأخرة حتى الفتاوى. لماذا لا تصدر في الوقت المناسب؟ لا أدري، فلله في خلقه شؤون. لا تظنوا أنّ الجمود في ديننا بل في عقول علماء السلاطين، إنّ علماء السلف وجدوا حلولاً لكثير من القضايا التي لم تكن حتى في عصرهم وعلى رأسها مسالة نقل الدم. لكن أقول: الله غالب. طابت أقاتكم.